تقديم عام :
القانون والمجتمع لا ينفصلان تلك حقيقة لا سبيل إلى الجدل فيها، فحيث ما يوجد مجتمع يوجد بالضرورة قانون، فالقانون إذن قديم قدم المجتمع، إذ هو النظام الذي يحكم كافة العلاقات أو الظواهر السائدة فيه، وهو وسيلة الضبط في المجتمع المطبق فيه، وأي خروج على مقتضى هذا النظام إنما يهدد المجتمع في أسس بقائه وإنمائه. ومن أجل هذا يتكفل القانون بمواجهة هذا الخروج بالجزاء المناسب.
ولاشك أن أعظم مراتب الخروج عن نظام القانون وقواعده في الضبط الاجتماعي إنما تتحقق بوقوع الجريمة، إذ الجريمة هي أكبر صور العصيان على النظام الذي يكفله القانون، كما أنها أبرز مظاهر التمرد على قواعد الانضباط في المجتمع، ومعنى هذا أن الجريمة هي الأخرى قديمة قدم القانون والمجتمع( ).
وإذا كان وجود القانون ملازما لوجود المجتمع فإن الجريمة هي الأخرى تلازم هذا الوجود ذلك أن الجريمة في أبسط وصف لها هي خروج على النظام الذي يضمه القانون، فقواعد القانون التي تضع أسس هذا النظام هي ذاتها التي تحكم جزاء الخروج عن النظام القانوني أي تحدد الجزاء على اقتراف الجريمة. إذن فما المقصود بالظاهرة الإجرامية ؟ (أولا) وإلى أي حد استطاع المجتمع توفير السبل الكفيلة لمكافحتها ؟ (ثانيا).
أولا : تعريف الظاهرة الإجرامية
الظاهرة الإجرامية سلوك إنساني يحدث في المجتمع اضطرابا بسبب خرقه لقواعد الضبط الاجتماعي( )، فقد توجد أسبابها في تكوين الفرد أو في ظروف الجماعة لكنها في كلتا الحالتين تحدث اضطرابا في العلاقات الاجتماعية. من هنا نجد الاتجاهات قد تباينت وتعددت حول تفسير الظاهرة الإجرامية، فبينما أرجعها (لمبروزو C. LOMBROSO) إلى التكوين الفطري، يظهر أن فيري (Enrico Ferri) يغلب الاعتبارات المتصلة بالبيئة الاجتماعية، ثم جارو قلو (A. Garofalo) الذي يغلب الاعتبارات المتصلة بالتكوين النفسي والخلقي، ولكن كل وجهات النظر السالفة اتفقت على نفي توفر حرية الاختيار لدى الجاني بوضعه أسيرا لكافة هذه الاعتبارات أو لبعضها( ).
ـ في الشريعة الإسلامية
عرفت الشريعة الإسلامية الجريمة بكونها “محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير” فالجريمة إذن هي إثبات فعل مجرم معاقب على فعله أو ترك فعل محرم الترك معاقب على تركه، وهي فعل الترك نصت الشريعة على تحريمة والعقاب عليه( ).
ـ في التشريع الوضعي :
يلاحظ أن العديد من التشريعات الوضعية قد عزفت عن إعطاء تعريف للجريمة تاركة هذه المهمة للفقهاء والباحثين، أما المشرع المغربي فقد عرف الجريمة في الفصل 110 من القانون الجنائي حيث نص على أن “الجريمة فعل أو امتناع مخالف للقانون ومعاقب عليه بمقتضاه”. ولما كان مناط اعتبار فعل ما بمثابة جريمة يرتبط أساسا بالاضطراب الذي قد يحدث بالمجتمع من جراء ذلك وبالضرر الذي قد يصيب الضحية، فإنه يجب البحث عن أنسب السبل والوسائل لمكافحة هذه الظاهرة، وذلك باقتراح السياسة التي من واجب المشرع أن يتبعها حتى يصبح كفاحه ضد الجريمة فعالا وجديا، واقتراح السياسة الجنائية الرشيدة إنما يكون قبل وقوع الجريمة وذلك باقتراح أسباب الوقاية منها أو يكون بعد وقوعها وذلك باقتراح الجزاء المناسب وتحديد أنسب السبل لتنفيذه، وتصنف هذه الأساليب العلمية القانونية في خانة علم العقاب Science pénitentiaire.
فما هي السبل التي تسعى إلى مكافحة الظاهرة الإجرامية ؟
<--SS-- type=text/--SS-->// < ![CDATA[ // < ![CDATA[ // < ![CDATA[ // < ![CDATA[ google_ad_client = "pub-9798252250438997"; /* 300x250, date de création 29/09/09 */ google_ad_slot = "1011142806"; google_ad_width = 300; google_ad_height = 250; // ]]>
<--SS-- type=text/--SS-- src="http://pagead2.googlesyndication.com/pagead/show_ads.js"> <--SS-- src="http://pagead2.googlesyndication.com/pagead/js/r20101117/r20110208/show_ads_impl.js"> <--SS-->google_protectAndRun("ads_core.google_render_ad", google_handleError, google_render_ad); ثانيا : سبل الوقاية من الظاهرة الإجرامية ومميزات كل نوع منها
لقد نص المشرع المغربي في الفصل الأول من القانون الجنائي على أن : “التشريع الجنائي يحدد أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية”( ).
من خلال هذا الفصل يتضح لنا أن النظام الجنائي المغربي يقوم على أساس الازدواجية المكونة من العقوبة ومن التدابير الوقائية من أجل مواجهة الجريمة ومكافحتها، ولهذا يتطلب وقوع الجريمة اتخاذ جزاء بالنسبة للجريمة ومعاملة بالنسبة للمجرم، فالجزاء يتمثل في توقيع عقوبة جنائية أو تدبير وقائي أما المعاملة فتقتضي اتباع أسلوب علمي لتنفيذ العقوبة على المحكوم عليه بما يحقق هدف الجزاء في الردع أو الدفاع الاجتماعي على أن أساليب الوقاية أو الجزاء أو المعاملة إنما تهدف جميعا إلى هدف واحد وهو مقاومة الظاهرة الإجرامية سواء قبل نشأتها أو بعد نشأتها ومحاولة رد المجرم حظيرة المجتمع ووصل أسباب الوئام والسلام بينه وبين النظام الاجتماعي( ) من أجل ذلك سنعمل على تقييم أساليب وسبل مكافحة الظاهرة الإجرامية وفق الشكل الآتي :
العقوبة في نقطة أولى، ثم التدابير الوقائية في نقطة ثانية، وفي نقطة ثالثة وأخيرة لمدى جواز الجمع بين العقوبة والتدبير الوقائي.
1. العقوبة
حددت العقوبة بالمفهوم التقليدي بأنها إجراء يستهدف إنزال آلام بالفرد من قبل السلطة بمناسبة ارتكابه جريمة، وهي ردة فعل اجتماعية على عمل مخالف للقانون وردة الفعل هاته تتجسد بتدابير إكراهية تطال الفرد في شخصه أو حقوقه أو ذمته المالية. وتفترض العقوبة وقوع جريمة أو أي عمل تحظره القوانين والأنظمة السائدة في المجتمع، والتشريعات الحديثة تقرر بأنه لا جريمة بدون نص، وبذلك لا تكون هناك عقوبة بدون نص. وقد عرفت المجتمعات القديمة ظاهرة الجريمة في صور متعددة وقررت لها جزاءات في المقابل تمثلت في الانتقام الفردي كرد فعل لعقاب المجرم في مرحلة أولى وتجسدت في الانتقام الجماعي في مرحلة لاحقة حين انتقلت الجماعة إلى تنظيم نفسها في إطار القبيلة والعشيرة التي كانت تلتزم مبدأ الدفاع عن أفرادها مما كان يؤدي في بعض الأحيان إلى حروب طويلة لأسباب ثأرية، أو في سبيل رد الاعتبار أو الشرف أو الكرامة( ).
وإلى أواخر القرن الثامن عشر كانت القوانين الوضعية تنظر إلى المجرم نظرة تفيض عنفا وقساوة وكان أساس العقوبات المبالغة في الإرهاب والانتقام والتشهير وكان من العقوبات المقررة المعترف بها قانونا الحرق والصلب وتقطيع الأوصال وصم الآذان وقطع الشفاه واللسان والوشم بأداة محماة( ) … ولم تكن العقوبات في الغالب تتناسب مع أهمية الجرائم التي قررت لها، فبالرغم من قسوة بعض العقوبات التي سبق ذكرها وفظاعة بعضها كانت عقوبة الإعدام لكثير من الجرائم البسيطة( ).
وفي القرن الثامن عشر بدأ الفلاسفة وعلماء الاجتماع يعملون على هدم الأساس الذي تقوم عليه العقوبة ويحاولون إقامتها على أساس آخر، فأخذ “روسو” يبرر العقوبة بالعقد الاجتماعي ويرى أن الغرض منها هو حماية الجماعة من المجرم ومنعه من إيذاء غيره، ويرى “بكاريا” العقوبة بأنها حق الدفاع يتنازل عنه الأفراد للجماعة وأن الغرض منها هو تأديب المجرم وزجر غيره، وقد تأثر رجال الثورة الفرنسية بهذه الآراء فطبقوها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1791، ثم جاء “بنهام” فبرر العقوبة بمنفعتها للجماعة حيث تقوم بحمايتها واستوجب أن تكون العقوبة كافية لتأديب الجاني وردع غيره، تم ظهر رأي “كانت” وهو يبرر العقوبة بالعدالة. ولعل ما يميز النظريات السابقة هو أنها تهمل شخصية المجرم وتنظر إلى الجريمة ومقدار جسامتها وأثرها على المجتمع، ولذلك لم تؤدي إلى حل مشكلة العقاب حلا يحسن السكوت عليه، وكرد فعل لهذا الإهمال الذي طال شخصية المجرم ظهرت النظرية العلمية أو النظرية الإيطالية وهي تقوم على إهمال الجريمة إهمالا تاما والنظر إلى شخصية المجرم، فيرى أصحاب النظرية أن تكون العقوبة متناسبة مع عقلية المجرم وتكوينه وتاريخه ودرجة خطورته، فالمجرم المطبوع على الإجرام يبعد إبعادا مؤبدا عن المجتمع أو يحكم عليه بالإعدام ولو كانت جريمته بسيطة، والمجرم الذي اعتاد على الإجرام يأخذ حكم المطبوع على الإجرام إذا تمكنت منه العادة، والمجرم الذي تجعل منه المصادفات والظروف مجرما يعاقب عقابا هينا لينا ولو كانت جريمته خطيرة، أما المجرم الذي يرتكب الجريمة تحت تأثير العاطفة فلا ضرورة لعقابه.
إلا أن النظرية العلمية لم تفلح بدورها في حل مشكلة العقاب، لأنها تنظر إلى المجرم وتهمل الجريمة ولأنها تفرق بين المجرمين دون فارق ملحوظ أو محدد، كما أنها تترك بعض المجرمين دون عقاب بينما تأخذ غيرهم ممن ارتكبوا نفس الفعل بأشد العقاب.
ولما كان سبب إخفاق النظريات القديمة هو اهتمامها بالجريمة وإهمال شأن المجرم، وبالمقابل تمثل سبب إخفاق النظرية العلمية في الاهتمام بالمجرم وإهمال الجريمة، رأى بعض علماء القانون أن يدمجوا الفكرتين اللتين تقوم عليهما هذه النظريات ويقيموا عليها نظرية جديدة بحيث يتمثل في العقوبة على شكل جريمة فكرتان : فكرة التأديب والزجر، وفكرة شخصية المجرم، إلا أن هذه النظرية المختلطة فشلت أكثر مما فشلت النظريات السابقة لأنها تقوم على فكرتين تناقض إحداهما الأخرى في أكثر الأحوال، فالنظر في شكل العقوبة إلى شخصية المجرم لا يحقق دائما فكرة التأديب والزجر، أي حماية المجتمع وعلى الأخص في الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن والنظام والأخلاق، والأخذ بفكرة حماية المجتمع في كل عقوبة يمنع من الالتفات لشخصية المجرم في الجرائم الخطيرة والبسيطة على السواء.
ويمكن القول بأن الاتجاه السائد اليوم لدى شراع القوانين الوضعية هو أن الغرض من العقوبة هو تأديب المجرم واستصلاحه ومعاونته على استعادة مكانته السابقة في الهيئة الاجتماعية.
ـ العقوبة في الشريعة الإسلامية
العقوبة من وجهة نظر الشريعة الإسلامية هي الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع، والمقصود من فرض العقوبة على عصيان أمر الشارع هو إصلاح حال البشر، وحمايتهم من المفاسد واستنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة وكفهم عن المعاصي، وبعثهم عن الطاعة، ولم يرسل الله رسوله للناس ليسطر عليهم أو ليكون عليهم جبارا، وإنما أرسله رحمة للعالمين. وذلك قوله تعالى : لست عليكم بمسيطر (الغاشية : 22) . وقوله تعالى : وما أنت عليهم بجبار (ق : 45). وقوله كذلك : وأما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء : 107). فالله أنزل شريعته للناس وبعث رسوله فيهم لتعليم الناس وإرشادهم، وقد فرض العقاب على مخالفة أمره لحمل الناس على ما يكرهون ما دام أنه يحقق مصالحهم ولصرفهم عما يشتهون ما دام أنه يؤدي لفسادهم. فالعقاب مقرر لإصلاح الأفراد ولحماية الجماعة وصيانة نظامها والله الذي شرع لنا هذه الأحكام وأمرنا بها لا تضره معصية عاص ولو عصاه أهل الأرض جميعا، ولا تنفعه طاعة مطيع ولو أطاعه أهل الأرض جميعا( ).
وكما سبقت الإشارة يقوم الجزاء في التشريع الإسلامي على أساس الدين، إذ أن مصدره الله تعالى وهو جزء من عقيدة شاملة ويختلف عن الجزاءات الوضعية من ناحيتن ؛ الأولى في وضعه لأنواع من العقوبات الدنيوية تختلف عن تلك المقررة في التشريعات الوضعية وهي التي تصيب الإنسان في هذه الدنيا (حد السرقة، حد الزنا)، والثانية في تقريره لجزاءات تصيب الإنسان في الآخرة كجزاء جهنم والعذاب العظيم. ولا يعني الأمر السابق انفصال عقاب الآخرة عن عقاب الدنيا، فكلاهما يشكلان الجزاء المفروض على من يخالف أحكام الخالق عز وجل الواردة في القرآن الكريم المنزل على الرسول الأمين، والفارق بينهما أن أحدهما وضعي يتولى تطبيقه الخليفة أو الحاكم أو ولي الأمر أو من ينوب عنه أو من يتولى إدارة شؤون المسلمين، والآخر مرجعه الله تعالى في يوم الحساب حيث تجزى كل نفس بما قدمت من خير أو شر( ).
والعقوبة في الشريعة الإسلامية إذا كان هدفها إيلام الجاني، فإن هذا الإيلام ليس مقصودا بحد ذاته وإنما بما يحققه من نتائج في نفسه وفي نفوس الآخرين، ومن حماية للمصالح المعتبرة في المجتمع، وبذلك يتمثل هدف العقوبة في الردع العام والردع الخاص، وإقامة العدالة بين الناس، وهذه هي مقومات العقوبات في التشريعات الوضعية، مع ملاحظة ما تتصف به الجزاءات في الآخرة من رادع للإنسان أقوى بكثير من جزاءات الدنيا. كون الحياة الآخرة خالدة بينما الحياة الدنيا فانية.
ولا تختلف العقوبة في الشريعة الإسلامية عنها في التشريعات الوضعية في كونها مقررة بالنص أو الاجتهاد أو في كونها شخصية “ولا تزر وازرة وزر أخرى” أو في كونها تطبق على الأشخاص بغض النظر عن أجناسهم أو ألوانهم أو مراكزهم الاجتماعية. والعقوبات المعينة في الشريعة الإسلامية نوعا ومقدارا سواء كانت من قبيل القصاص أو الحدود تلزم ولي الأمر والأمة في تطبيقها، ولا يجوز استبدالها، أو تعديل مقدارها بالزيادة أو النقصان، كما أنها لا تقبل العفو أو الإسقاط إذا وصلت إلى ولي الأمر، وتفرض هذه العقوبات على المكلفين أما غير المكلفين فلا يقام عليه حد ولا يقتص منه ولكنه يمكن أن يعزر في حال ارتكابه الجريمة.
أما عقوبة التعزير فهي التي لم يرد بشأنها نص يحدد مقدارها أو نوعها، ولولي الأمر أن يختارها بالنسبة للجريمة والمجرم بما يحقق مصلحة الجماعة المشروعة والعدالة الاجتماعية، فهي تتقرر تبعا لجسامة الضرر، ووفقا لقواعد موضوعية عامة، وبذلك يبدو الاختلاف واضحا بينها وبين جرائم الحدود التي تتعلق بمصالح ثابتة لا تتغير بتغير المجتمع أو الزمان وعقوباتها مقررة بحكم الله سبحانه وتعالى.
ـ العقوبة في التشريع المغربي
يجمع الفقه الجنائي على تعريف العقوبة بكونها “الجزاء الذي يقرره القانون ويوقعه القاضي على من تثبت مسؤوليته الجنائية عن فعل يعتبر جريمة في نظر القانون”.
وبناء على هذا التعريف يمكن استنتاج أن العقوبة تستمد شرعيتها من القاعدة الدستورية (الفصل 10) التي مفادها “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص” كما أن القانون الجنائي المغربي تبنى نفس القاعدة عندما نص في الفصل الأول على أنه “يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية” ويستخلص من هذه الصفة (صفة الشرعية) أن العقوبة يجب أن تكون محددة سلفا من طرف المشرع، وذلك بالنسبة لكل نوع من أنواع الجرائم، كما يشترط فيها كذلك أن يكون هذا التحديد دقيقا من حيث نوعها ومقدارها، وصفة الشرعية تجعل المحكمة ملزمة باحترامها، وبالتالي عدم الإخلال بنظامها، وذلك عن طريق مراعاة أحكام تطبيقها في إطار سياسة تفريد العقاب التي تخول للقاضي ممارسة سلطته التقديرية مراعيا في ذلك شخصية الجاني والظروف التي ارتكبت فيها.
وبالإضافة إلى صفة الشرعية تتصف العقوبة في التشريع الجنائي المغربي بصفة الشخصية، فالقضاء الجنائي لا يلجأ إلى العقوبة إلا عند ثبوت المسؤولية الجنائية للمتهم. وهذا يعني أن العقوبة ترتبط ارتباطا عضويا بمفهوم المسؤولية الجنائية التي تعتبر في نظر المشرع شخصية أي أن الشخص الذي يرتكب الجريمة يعتبر مسؤولا لوحده عن هذه الجريمة سواء كان فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا فيها وهذه الصفة تحول دون متابعة أفراد آخرين لم يرتكبوا الجريمة ولو كانت لهم قرابة بالمتهم أو علاقة اجتماعية محددة.
وإلى جانب الصفتين السابقتين تتصف العقوبة بالمساواة أمام القانون الجنائي أي خضوع جميع الأفراد لمقتضياته دون تمييز بينهم بالرجوع إلى وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي أو الديني، ولكن خاصية المساواة التي تتصف العقوبة بها تبقى نسبية نظرا لوجود عدة حالات لا تخضع لهذه الصفة منها على الخصوص : القاضي لا يكون دوما ملزما بأن يحكم بنفس العقوبة على كل من ارتكب الجريمة، فهو يتمتع بسلطة تقديرية تمكنه من تحديد العقوبة الملائمة لكل متهم على حدة. كما أن عقوبة الحبس أو السجن لا تخلف لدى المحكوم عليهم نفس الآثار، وذلك يكون راجعا بالأساس إلى شخصية هؤلاء ودرجة تحملهم للآلام التي تحدثها العقوبة السالبة للحرية لديهم، أما عندما يتعلق الأمر بالغرامة فإن صفة المساواة تفتقد وذلك بسبب تفاوت ثروة المحكوم عليهم، فإخضاع الغني والفقير لنفس المبلغ في عقوبة الغرامة لا يخلف نفس الأثر، ثم صفة المساواة تتأثر كذلك عندما تكون صفة الفاعل في بعض الجرائم ذات أثر كبير في تحديد العقوبة، فصفة الموظف أو القاضي أو الخادم أو الأصل تؤثر في المساواة أمام العقوبة، وذلك إما عن طريق تخفيفها أو تشديدها.
وأخيرا تتصف العقوبة بصفة القضائية يعني تدخل السلطة القضائية عن طريق الدعوى العمومية التي تحركها النيابة العامة، وذلك لمحاكمة الجاني وتحديد العقوبة الملائمة للجريمة التي ارتكبها في حق المجتمع، ولا شك أن تدخل القضاء الزجري يعتبر دعامة تضمن الحريات الفردية والجماعية.
وتبقى الأهداف التي يتوخى التشريع الجنائي المغربي تحقيقها من وراء فرضه للعقوبات تتلخص في الردع الخاص الذي يرمي إلى إخضاع المحكوم عليه للعقوبة التي من شأنها أن تخلق لديه الشعور بالألم بسبب الجريمة التي ارتكبها، والضرر الذي ألحقه بالمجتمع، ثم الردع العام، ويقصد به إنذار كافة الناس عن طريق التهديد بالعقوبة بسوء عاقبة الإجرام التي تعتبر خطرا يهدد كيان المجتمع.
ومن خلال الفصل 14 من القانون الجنائي الذي ينص على أن “العقوبات إما أصلية أو إضافية، فتكون أصلية عندما يسوغ الحكم بها وحدها دون أن تضاف إلى عقوبة أخرى، وتكون إضافية عندما لا يسوغ الحكم بها وحدها، أو عندما تكون ناتجة عن الحكم بعقوبة أصلية” يتضح أن القانون الجنائي المغربي يقسم العقوبات إلى قسمين : عقوبات أصلية يسوغ الحكم بها وحدها دون أن تضاف إلى عقوبة أخرى، والتي تنقسم بدورها إلى عقوبات جنائية أصلية (عقوبة الإعدام، السجن المؤبد أو المؤقت، الإقامة الإجبارية، التجريد من الحقوق الوطنية) وعقوبات جنحية أصلية (عقوبة الحبس، عقوبة الغرامة) ثم العقوبات الضبطية الأصلية (الاعتقال، الغرامة)، وعقوبات إضافية ناتجة عن الحكم الصادر بعقوبة أصلية، وتتلخص هذه العقوبات في الحجز القانوني، والتجريد من الحقوق الوطنية كعقوبة إضافية وليس كعقوبة جنائية أصلية، وكذا الحرمان من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية، والحرمان النهائي أو المؤقت من الحق في المعاشات التي تصرفها الدولة، وحل الشخص المعنوي ثم أخيرا نشر الحكم الصادر بالإدانة( ).
وبما أن النظام الجنائي المغربي يقوم على أساس الازدواجية المكونة من العقوبة ومن التدابير الوقائية، وإذا كنا قد تناولنا العقوبة بالدراسة والتحليل فما المقصود بالشق الثاني من الجزاء الجنائي المتمثل في التدابير الوقائية ؟
ثانيا : التدابير الوقائية
نظرا للأضرار اللامتناهية التي تترتب على ارتكاب الجريمة، فقد اتجهت المجتمعات المختلفة عبر تشريعاتها إلى محاولة تجنب ارتكابها ابتداء، أو منع العود والسقوط في وهدتها ثانية، فقد أفاقت المجتمعات على الحكمة القائلة بأن “الوقاية خير من العلاج” ووجدت ضالتها في التدابير الوقائية التي أرست دعائمها المدرسة الوضعية، وطورتها وأضافت إليها حركة الدفاع الاجتماعي، خاصة على يد مارك أنسل عبر مفهومه الحديث لهذه الحركة( ).
وقد حظيت التدابير الوقائية بدراسات كثيرة ومتعمقة في مختلف الدول، وكانت محلا لمناقشات العديد من المؤتمرات، وأخذت بها الدولة المختلفة بنسب متفاوتة، فمنها ما أخذ بها كنظرية متكاملة كإيطاليا وسويسرا، ولبنان ودولة الإمارات، ومنها ما أخذ بها على استحياء سواء لطائفة معينة من المجرمين (الأحداث، العائدين، المجانين …) كما هو الحال بالنسبة لمصر وفرنسا والمغرب.
ودراستنا للتدابير الوقائية ستتوقف عند هذا الحد لأننا سنتناولها بالتحليل والشرح الدقيق والمفصل في الفصل القادم قبل أن نتطرق لدورها في مكافحة ظاهرة الإجرامية في فصل آخر.
ثالثا : ما مدى إمكانية الجمع بين العقوبة والتدابير الوقائية
لا يسعنا في غمار النقاش الدائر حول طبيعة العقوبات والتدابير الوقائية سوى القول أن هنالك جوانب اتفاق وجوانب اختلاف بين النظامين، ولكل منهما أهدافه ومجالاته الإصلاحية التي لا غنى عنها في مجال مكافحة الإجرام في المجتمع.
وإذا كانت الخطورة الإجرامية تبرر قيام التدابير وفرضها، فإن ذلك يعني التسليم بإمكانية تأهيل المجرم الخطر وعزله واتخاذ إجراءات غير محددة المدة بحقه حتى تزول تلك الخطورة، ونتيجة لهذه الطبيعة التي تتميز بها التدابير أوصت المؤتمرات الدولية بعدم الجمع بينها وبين العقوبات حتى لا يخضع المحكوم عليه لنوعين مختلفين من العلاج.
ورغم وجهة النظر هذه فإن بعض التشريعات ومنها التشريع اللبناني والسوري والليبي والمغربي أجازت الجمع بين التدابير والعقوبة على أساس أن التدابير تتصدى للحالة الخطرة بينما العقوبة تواجه المسؤولية. ففي التشريع المغربي مثلا فإن المجرم المعتاد على البطالة والتعيش عادة من أعمال غير مشروعة يحكم عليه بتدبير الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية لمدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز سنتين، ويبدأ تنفيذ هذا التدبير بمجرد انتهاء العقوبة الأصلية، بمعنى أن هذا المعتاد يخضع لتنفيذ العقوبة أولا ثم التدابير الوقائية.
مهما يكن من أمر فإن اتساع نطاق التدابير يعتبر من مظاهر السياسة الجزائية الحديثة التي لم تحل محل العقوبات في مضمونها التقليدي، خاصة أن هذه الأخيرة بدأت تتطور باتجاه وقائي علاجي أكثر من كونها إجراءات ردعية، ونرى أنه إذا كانت بعض الحالات تستلزم تطبيق جزاءات رادعة كالعقوبة وجزاءات وقائية وعلاجية كالتدبير الوقائي، فإن ذلك لا يمنع من الجمع بينهما بالقدر الذي تقتضيه عملية التأهيل أو الخطورة الإجرامية بهدف الدفاع عن مصالح المجتمع ضد الجريمة والانحراف( ).
إلا أن الصعوبة تثور من ناحية عملية حول كيفية وأولوية تطبيق العقوبات أو التدابير الوقائية وقد حسمت بعض التشريعات هذا التساؤل ووضعت بعض النصوص في هذا المجال كما فعل المشرع المغربي في الفصل 92 الذي ينص على “إذا صدر على شخص خلال تنفيذه لتدبير سالب للحرية، أو مقيد لها حكم بعقوبة سالبة للحرية، من أجل جناية أو جنحة أخرى، فإنه يوقف تنفيذ التدبير الوقائي كيفما كان ما عدا الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج، وتنفيذ على المحكوم عليه العقوبة الجديدة”.